القبر الجديد، للدكتور جمال بن زهران الحراصي تلميذي العماني النجيب

    رجعت إلى غرفة نومي؛ لأني نسيت لبس عمامتي، فلبستها وخرجت مباشرة، فهي جاهزة ولا تحتاج إلى مزيد عناية لتجهيزها ولا إلى إطالة الوقوف أمام المرآة لمعرفة مدى الإجادة في لبسها، ولم يتبقَّ لي سوى الخيزران النائمة في صندوق سيارتي، حسنًا أنا جاهز إذن لكي أتجه بالسيارة من بيتي المزروع في (الغنتق) قلْب مدينة نزوى إلى مجلس العزاء في وسط (حي العين)، لقد دفنّا الليلة البارحة امرأةً في الأربعينيّات من عمرها، ومجلس العزاء قد فتحت أبوابه لجموع المعزّين من صباح هذا اليوم، لقد رحل (كوفيد 19) غير مأسوف عليه، وعدنا إلى المشاركة في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وكعادتي فإني حريص على حضور هذه المناسبات السعيدة منها والحزينة في محيط مدينة نزوى، وخصوصًا في وسطها كالغنتق وسعال والعقر والسعاليّة وحيّ العين وغاف الشيخ.

     عندما مددت إصبعي لأضغط على البصمة المثبتة على مقبض باب السيارة كي أدفن جسدي داخلها لتحملني إلى (حي العين) كان صوت هاتفي ينادي، آه إنه صديقي هلال يتّصل بي الآن، نظرت قليلًا في شاشة الهاتف، ثم أخذت أتفكّر: عجبًا، ماله اليوم يتّصل بي في هذا الصباح الباكر وكان من عاداته أن يرسل لي رسائل (الواتسب) مهما كان الأمر مهمًّا بالنسبة له.

أسرعت باستقبال المكالمة قبل أن ييأس مني ويسرع بإغلاقها:

– السلام عليكم أخي هلال.

– وعليكم السلام أخي موسى، كيف الحال؟

– الحمد لله كلّنا بخير، كيف أنتم والأهل والأولاد؟

– هل أنت الآن في البيت؟

– نعم، تفضّل.

– أريد أن أمرّ عليك؛ لكي نذهب إلى عزاء (حي العين).

– جميل، أنا كنت على وشك الذهاب، سنلتقي قريبًا من مجلس العزاء إذن.

– لا لا انتظرني في بيتك، ستأتي معي، أنا الآن سأتحرّك من بلادنا، مسافة الطريق فقط وأصل إليك.

– تمام أنتظرك إذن.

– مع السلامة.

      زاد عجبي من موقف صديقي، ووقفت واجمًا أمام سيارتي، فهذا الرجل على الرغم من كونه صديقي، ولكنّه إنسان غامض غريب، فهذه لعلّها من الحالات النادرة التي يحضر فيها مجلس عزاء هنا عندنا في وسط المدينة، ففي كثير من المرّات كنت أخبره عن عزاء لأناس يعرفهم، ولكنه يعتذر عن الحضور مكتفيًا بقوله: ” الله يرحم موتى المسلمين “ØŒ بل حتى في القرى المجاورة لقريته لم يكن حريصًا كثيرًا على الحضور، فماله اليوم يبادر بنفسه ليحضر عزاء امرأة لا أظنّه يعرفها، بل في الساعات الأولى من اليوم الأول للعزاء، والغريب إصراره على الإتيان أولًا إلي مع أنه أبعد عليه من مجلس العزاء.

    قطعت تساؤلاتي وشكّي، وقررت أن أقضي وقت الانتظار إلى موعد وصوله بالتجوال بين مزارع النخيل المحيطة ببيتي، فهو أمر يشعرني بالراحة خصوصًا في الصباح الباكر، وقدّرت أنّ صديقي يحتاج إلى ما لا يقلّ عن عشرين دقيقة ليصل إلي سواء أسلك الطريق الرئيس ليصل إلى سوق نزوى ثم يدخل منه إلى (الغنتق)، أم سلك طريق (غاف الشيخ) ثم (حي العين) وصولًا إلى (الغنتق)، فبلا شكّ أن الإشارات الضوئية أو كاسرات السرعة ستؤخّر وصوله على الرغم من أنّ المسافة بين (الغنتق) وقريته لا تتجاوز 20 كيلومترًا.

       قضيت وقتًا صباحيًّا جميلًا بين بساتين النخيل التي جادت بثمرها، وقد أينع بعضها، وبعضها ينتظر ملّاكها إيناعها عمّا قريب، ومنها التي حُصِدَت، فنحن الآن في بداية شهر (أغسطس) وما زلنا في موسم القَيْظ.

    عدت إلى بيتنا عند قرب انتهاء المدّة، وسرعان ما رأيت سيارة صديقي (المرسيدس) الصالون ناصعة البياض تقترب من بيتنا.

       بحركة يدي أخبرته أن يترجّل عنها؛ لكي يدخل بيتنا لتناول القهوة، ولكنه فتح نافذته ووعدني بذلك قائلًا: ” بعد العودة من العزاء أريدك أن ترافقني إلى مكان آخر، ثم نعود إلى بيتك فنتقهوى”ØŒ وحينها أسرعت إلى صندوق سيارتي الرابضة تحت المظلّة الاسمنتيّة، فأخذت الخيزران، وركبت سيارته.

    كعادته وحيدًا لا مرافق له، تصافحنا وتساءلنا عن العلوم والأخبار كما تعوّدنا، ثم ساد صمت عميق بيننا على غير عادته، فهو كثيرًا ما كان يساءلني عن مدينة نزوى ومناطقها ورجالها وتأريخها ونخيلها وعادات أهلها.

   لم تكن المسافة بين بيتي ومجلس العزاء في (حي العين) بالبعيدة، ولكنّ صديقي يقضي وقتًا طويلًا عند عبور سيارته كاسرات السرعة التي يسمّيها الناس بالمطبّات، والتي غرس الكثير منها في هذا الشارع، آه تكاد سيارته أن تقف تمامًا عند كل واحد منها، أذكر أنه في جولاتنا السابقة كان يتضايق بشدّة منها، وكان يقول عندما يرى واحدًا منهنّ: ” آه، وَعْب ” لكنه هذه المرّة لا يتفوّه بشيء، كان واجمًا صامتًا، قلت في نفسي: هذه ضريبة من يشتري سيارة جديدة وغالية الثمن كسيارة صديقي.

    وصلنا مجلس العزاء، وعند الباب طلبت منه أن يدخل أوّلًا، ولكنه اعتذر بابتسامة سريعة وحرّك يده اليمنى؛ ليشير إليّ بالدخول، فلم ألحّ عليه؛ لأني أعلم يقينًا أنه لن يدخل قبلي حتى لو بقينا إلى وقت صلاة الظهر.

         كعادة مجالس العزاء قبيل الساعة التاسعة صباحًا يكون عدد المعزّين قليلًا وأكثرهم من كبار السنّ، دخلنا وسلّمنا وصافحنا أهل الفقيدة فقط الذين كانوا يقفون في صدر المجلس، وكان بينهم وبين المعزّين لهم فاصل مكانيّ بسيط، فهذا تقليد جديد عمل به الناس بعد انقضاء الوباء.

    جلسنا في مقابل صدر المجلس، وكعادته رفض صديقي تناول قهوة العزاء، كان ينظر نظرات غير طبيعيّة بين مدّة وأخرى إلى والد الفقيدة وإخوتها، مما أثار دهشتي، فأردت أن أشغله عن ذلك وسألته: أين تريدني أن أرافقك؟

   نظر إلي نظرة عتاب فيها الكثير من الصرامة والتحفّظ، وكأنه أصيب بصعق كهربائي، وأسرع بتسكيتي عن هذا الأمر بأن قال لي بصوت هامس: ستعلم عندما نخرج.

       قدحت في عقلي احتمالات متعدّدة للمكان الذي يريد الذهاب إليه، فكان من عاداته زيارة الآثار القديمة، لا بل لعلّه يريد خِطبة امرأةً لتكون زوجة ثانية له، ولكني سرعان ما استبعدت هذا الخيار، فظنّي فيه أنه ليس ممّن يسعى لذلك.

     بعد عشر دقائق أعدنا السلام على أهل العزاء ونحن نستأذنهم بالمغادرة، ويبدو أن صديقي ضايقه عدم اهتمامهم بنا وعدم مرافقتهم لنا إلى باب المجلس.

    ركبنا (المرسيدس) من جديد، وقبل أن تتحرّك بنا قلت له: هيّا إذن أخبرني أين تريدني أن أرافقك؟

      نظر إلي نظرة جديدة مختلفة، نظرة صامتة فيها شيء من الرجاء وشيء من الاستعطاف، ثم قال لي: قبل أن أخبرك أطلب منك أن تنسى أسلوب الاستفهام وخصوصًا (لِمَ ولماذا) فلا تستعمله في حديثك معي كأنك لا تعرفه.

قلت له: حسنًا لن أسألك عن شيء.

– أظنك كنت معهم الليلة البارحة في حمل الجنازة.

– نعم.

– إذن أنت تعلم مكان قبرها.

– نعم، ماذا تريد؟

– تدلّني عليه.

    ولأني أعلم أن صديقي ليس من أصحاب البدع أو المآرب المشبوهة، فأخبرته بموافقتي، وظننته أراد بذلك الموعظة، فالمدفونة عمرها مقارب لعمره.

   وقفتْ السيارة بنا جنب مصلّى الجنائز في المقبرة العتيقة التي تعرف بمقبرة الأئمة، ليس ثمّة باب أو سور يحيط بالمقبرة، وإنما مباشرة تواجهك قبور دارسة متقاربة في خطوط متساوية.

” السلام عليكم معشر قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ” ردّدنا الدعاء، ومشينا خطوات بسيطة. بدا القبر الجديد من بعيد واضحة معالمه مختلفًا عمّا حوله، فهو لا يزال رطبًا ومرتفعًا قليلًا عن جيرانه، وفي أعلاه حصاة كبيرة لتكون علمًا له.

   نظر إليّ صديقي نظرة السؤال، فقلت له: هو.

    اقترب منه بخطوات متردّدة ونظرات غارقة في ماضٍ بعيد، أكثر من السلام، ثم جثا على ركبتيه، وبسط يديه، وأخذ يدعو دعاءً طويلًا.

     كنت أراقب الموقف من قريب، كانت عيناه تذرفان الدموع، حينها أيقنت أنّ الأمر أكبر من أخذ العظة، وانبلج لي شيء من الحقيقة، فلا شكّ أنّ الرجل على علم بالمرأة المتوفاة، ولكنّ أنّى لي أنّ أعرف ماهيّة تلك المعرفة وأنا ملتزم في حديثي معه بعدم استعمال أسلوب الاستفهام.

   صرفت نظري عنه، وسرحت بخيالي في جوانب المقبرة: متى سيصلح حالها بتسويرها؟

    كأن صديقي أحسّ بشيء من الحرج لكون القبر لا يبعد كثيرًا عن الطريق المسفلت الذي يقسّم المقبرة قسمين، نهض، نظر أمامًا ويمينًا وشمالًا وخلفًا كأنما يحدّد في ذهنه بدقّة عالية موضع القبر؛ ليعود إليه مرّة بعد أخرى.

   عدنا إلى السيارة، ووصلنا بيتي، دخلنا لتناول القهوة، وبحركته المعتادة أبعد صحن الفاكهة جانبًا وقال مقولته المتكرّرة: “لا نريد من هذا التقدوم”ØŒ أكل رطبتين من صنف (الزَّبَد) ورطبة واحدة من صنف (خَلاص عُمان) وقال بدعابة نادرة: “نرضي كلّ الأطراف”ØŒ وأردف: ” لا أريد شرب القهوة “ØŒ فلم ألحّ عليه، فأكثر أيامه لا يشربها، ولكني دعوته إلى البقاء معنا إلى أن نصلّي صلاة الظهر في المسجد جماعة، ثمّ نتناول وجبة الغداء، فأبى.

   سلّم عليّ، وشكرني، وركب سيارته، ومضى.

   لا أدري إن كان سيتّجه مباشرة إلى القبر، أو سيعود إلى بلاده.

Related posts

Leave a Comment