رجعت إلى غرÙØ© نومي؛ لأني نسيت لبس عمامتي، Ùلبستها وخرجت مباشرة، Ùهي جاهزة ولا تØتاج إلى مزيد عناية لتجهيزها ولا إلى إطالة الوقو٠أمام المرآة لمعرÙØ© مدى الإجادة ÙÙŠ لبسها، ولم يتبقَّ لي سوى الخيزران النائمة ÙÙŠ صندوق سيارتي، Øسنًا أنا جاهز إذن لكي أتجه بالسيارة من بيتي المزروع ÙÙŠ (الغنتق) قلْب مدينة نزوى إلى مجلس العزاء ÙÙŠ وسط (ØÙŠ العين)ØŒ لقد دÙنّا الليلة البارØØ© امرأةً ÙÙŠ الأربعينيّات من عمرها، ومجلس العزاء قد ÙتØت أبوابه لجموع المعزّين من ØµØ¨Ø§Ø Ù‡Ø°Ø§ اليوم، لقد رØÙ„ (كوÙيد 19) غير مأسو٠عليه، وعدنا إلى المشاركة ÙÙŠ المناسبات الاجتماعية المختلÙØ©ØŒ وكعادتي Ùإني Øريص على Øضور هذه المناسبات السعيدة منها والØزينة ÙÙŠ Ù…Øيط مدينة نزوى، وخصوصًا ÙÙŠ وسطها كالغنتق وسعال والعقر والسعاليّة ÙˆØيّ العين وغا٠الشيخ.
    عندما مددت إصبعي لأضغط على البصمة المثبتة على مقبض باب السيارة كي أدÙÙ† جسدي داخلها لتØملني إلى (ØÙŠ العين) كان صوت هاتÙÙŠ ينادي، آه إنه صديقي هلال يتّصل بي الآن، نظرت قليلًا ÙÙŠ شاشة الهاتÙØŒ ثم أخذت أتÙكّر: عجبًا، ماله اليوم يتّصل بي ÙÙŠ هذا Ø§Ù„ØµØ¨Ø§Ø Ø§Ù„Ø¨Ø§ÙƒØ± وكان من عاداته أن يرسل لي رسائل (الواتسب) مهما كان الأمر مهمًّا بالنسبة له.
أسرعت باستقبال المكالمة قبل أن ييأس مني ويسرع بإغلاقها:
– السلام عليكم أخي هلال.
– وعليكم السلام أخي موسى، كي٠الØال؟
– الØمد لله كلّنا بخير، كي٠أنتم والأهل والأولاد؟
– هل أنت الآن ÙÙŠ البيت؟
– نعم، تÙضّل.
– أريد أن أمرّ عليك؛ لكي نذهب إلى عزاء (ØÙŠ العين).
– جميل، أنا كنت على وشك الذهاب، سنلتقي قريبًا من مجلس العزاء إذن.
– لا لا انتظرني ÙÙŠ بيتك، ستأتي معي، أنا الآن سأتØرّك من بلادنا، مساÙØ© الطريق Ùقط وأصل إليك.
– تمام أنتظرك إذن.
– مع السلامة.
     زاد عجبي من موق٠صديقي، ووقÙت واجمًا أمام سيارتي، Ùهذا الرجل على الرغم من كونه صديقي، ولكنّه إنسان غامض غريب، Ùهذه لعلّها من الØالات النادرة التي ÙŠØضر Ùيها مجلس عزاء هنا عندنا ÙÙŠ وسط المدينة، ÙÙÙŠ كثير من المرّات كنت أخبره عن عزاء لأناس يعرÙهم، ولكنه يعتذر عن الØضور مكتÙيًا بقوله: ” الله يرØÙ… موتى المسلمين “ØŒ بل Øتى ÙÙŠ القرى المجاورة لقريته لم يكن Øريصًا كثيرًا على الØضور، Ùماله اليوم يبادر بنÙسه ليØضر عزاء امرأة لا أظنّه يعرÙها، بل ÙÙŠ الساعات الأولى من اليوم الأول للعزاء، والغريب إصراره على الإتيان أولًا إلي مع أنه أبعد عليه من مجلس العزاء.
   قطعت تساؤلاتي وشكّي، وقررت أن أقضي وقت الانتظار إلى موعد وصوله بالتجوال بين مزارع النخيل المØيطة ببيتي، Ùهو أمر يشعرني بالراØØ© خصوصًا ÙÙŠ Ø§Ù„ØµØ¨Ø§Ø Ø§Ù„Ø¨Ø§ÙƒØ±ØŒ وقدّرت أنّ صديقي ÙŠØتاج إلى ما لا يقلّ عن عشرين دقيقة ليصل إلي سواء أسلك الطريق الرئيس ليصل إلى سوق نزوى ثم يدخل منه إلى (الغنتق)ØŒ أم سلك طريق (غا٠الشيخ) ثم (ØÙŠ العين) وصولًا إلى (الغنتق)ØŒ Ùبلا شكّ أن الإشارات الضوئية أو كاسرات السرعة ستؤخّر وصوله على الرغم من أنّ المساÙØ© بين (الغنتق) وقريته لا تتجاوز 20 كيلومترًا.
      قضيت وقتًا صباØيًّا جميلًا بين بساتين النخيل التي جادت بثمرها، وقد أينع بعضها، وبعضها ينتظر ملّاكها إيناعها عمّا قريب، ومنها التي ØÙصÙدَت، ÙÙ†ØÙ† الآن ÙÙŠ بداية شهر (أغسطس) وما زلنا ÙÙŠ موسم القَيْظ.
   عدت إلى بيتنا عند قرب انتهاء المدّة، وسرعان ما رأيت سيارة صديقي (المرسيدس) الصالون ناصعة البياض تقترب من بيتنا.
      بØركة يدي أخبرته أن يترجّل عنها؛ لكي يدخل بيتنا لتناول القهوة، ولكنه ÙØªØ Ù†Ø§Ùذته ووعدني بذلك قائلًا: ” بعد العودة من العزاء أريدك أن تراÙقني إلى مكان آخر، ثم نعود إلى بيتك Ùنتقهوى”ØŒ ÙˆØينها أسرعت إلى صندوق سيارتي الرابضة تØت المظلّة الاسمنتيّة، Ùأخذت الخيزران، وركبت سيارته.
   كعادته ÙˆØيدًا لا مراÙÙ‚ له، تصاÙØنا وتساءلنا عن العلوم والأخبار كما تعوّدنا، ثم ساد صمت عميق بيننا على غير عادته، Ùهو كثيرًا ما كان يساءلني عن مدينة نزوى ومناطقها ورجالها وتأريخها ونخيلها وعادات أهلها.
  لم تكن المساÙØ© بين بيتي ومجلس العزاء ÙÙŠ (ØÙŠ العين) بالبعيدة، ولكنّ صديقي يقضي وقتًا طويلًا عند عبور سيارته كاسرات السرعة التي يسمّيها الناس بالمطبّات، والتي غرس الكثير منها ÙÙŠ هذا الشارع، آه تكاد سيارته أن تق٠تمامًا عند كل واØد منها، أذكر أنه ÙÙŠ جولاتنا السابقة كان يتضايق بشدّة منها، وكان يقول عندما يرى واØدًا منهنّ: ” آه، وَعْب ” لكنه هذه المرّة لا يتÙوّه بشيء، كان واجمًا صامتًا، قلت ÙÙŠ Ù†Ùسي: هذه ضريبة من يشتري سيارة جديدة وغالية الثمن كسيارة صديقي.
   وصلنا مجلس العزاء، وعند الباب طلبت منه أن يدخل أوّلًا، ولكنه اعتذر بابتسامة سريعة ÙˆØرّك يده اليمنى؛ ليشير إليّ بالدخول، Ùلم ألØÙ‘ عليه؛ لأني أعلم يقينًا أنه لن يدخل قبلي Øتى لو بقينا إلى وقت صلاة الظهر.
        كعادة مجالس العزاء قبيل الساعة التاسعة صباØًا يكون عدد المعزّين قليلًا وأكثرهم من كبار السنّ، دخلنا وسلّمنا وصاÙØنا أهل الÙقيدة Ùقط الذين كانوا يقÙون ÙÙŠ صدر المجلس، وكان بينهم وبين المعزّين لهم Ùاصل مكانيّ بسيط، Ùهذا تقليد جديد عمل به الناس بعد انقضاء الوباء.
   جلسنا ÙÙŠ مقابل صدر المجلس، وكعادته رÙض صديقي تناول قهوة العزاء، كان ينظر نظرات غير طبيعيّة بين مدّة وأخرى إلى والد الÙقيدة وإخوتها، مما أثار دهشتي، Ùأردت أن أشغله عن ذلك وسألته: أين تريدني أن أراÙقك؟
  نظر إلي نظرة عتاب Ùيها الكثير من الصرامة والتØÙّظ، وكأنه أصيب بصعق كهربائي، وأسرع بتسكيتي عن هذا الأمر بأن قال لي بصوت هامس: ستعلم عندما نخرج.
      قدØت ÙÙŠ عقلي اØتمالات متعدّدة للمكان الذي يريد الذهاب إليه، Ùكان من عاداته زيارة الآثار القديمة، لا بل لعلّه يريد Ø®Ùطبة امرأةً لتكون زوجة ثانية له، ولكني سرعان ما استبعدت هذا الخيار، Ùظنّي Ùيه أنه ليس ممّن يسعى لذلك.
    بعد عشر دقائق أعدنا السلام على أهل العزاء ونØÙ† نستأذنهم بالمغادرة، ويبدو أن صديقي ضايقه عدم اهتمامهم بنا وعدم مراÙقتهم لنا إلى باب المجلس.
   ركبنا (المرسيدس) من جديد، وقبل أن تتØرّك بنا قلت له: هيّا إذن أخبرني أين تريدني أن أراÙقك؟
     نظر إلي نظرة جديدة مختلÙØ©ØŒ نظرة صامتة Ùيها شيء من الرجاء وشيء من الاستعطاÙØŒ ثم قال لي: قبل أن أخبرك أطلب منك أن تنسى أسلوب الاستÙهام وخصوصًا (Ù„ÙÙ…ÙŽ ولماذا) Ùلا تستعمله ÙÙŠ Øديثك معي كأنك لا تعرÙÙ‡.
قلت له: Øسنًا لن أسألك عن شيء.
– أظنك كنت معهم الليلة البارØØ© ÙÙŠ Øمل الجنازة.
– نعم.
– إذن أنت تعلم مكان قبرها.
– نعم، ماذا تريد؟
– تدلّني عليه.
   ولأني أعلم أن صديقي ليس من أصØاب البدع أو المآرب المشبوهة، Ùأخبرته بمواÙقتي، وظننته أراد بذلك الموعظة، ÙالمدÙونة عمرها مقارب لعمره.
  وقÙتْ السيارة بنا جنب مصلّى الجنائز ÙÙŠ المقبرة العتيقة التي تعر٠بمقبرة الأئمة، ليس ثمّة باب أو سور ÙŠØيط بالمقبرة، وإنما مباشرة تواجهك قبور دارسة متقاربة ÙÙŠ خطوط متساوية.
” السلام عليكم معشر قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونØÙ† اللاØقون، نسأل الله لنا ولكم العاÙية ” ردّدنا الدعاء، ومشينا خطوات بسيطة. بدا القبر الجديد من بعيد واضØØ© معالمه مختلÙًا عمّا Øوله، Ùهو لا يزال رطبًا ومرتÙعًا قليلًا عن جيرانه، ÙˆÙÙŠ أعلاه Øصاة كبيرة لتكون علمًا له.
  نظر إليّ صديقي نظرة السؤال، Ùقلت له: هو.
   اقترب منه بخطوات متردّدة ونظرات غارقة ÙÙŠ ماض٠بعيد، أكثر من السلام، ثم جثا على ركبتيه، وبسط يديه، وأخذ يدعو دعاءً طويلًا.
    كنت أراقب الموق٠من قريب، كانت عيناه تذرÙان الدموع، Øينها أيقنت أنّ الأمر أكبر من أخذ العظة، وانبلج لي شيء من الØقيقة، Ùلا شكّ أنّ الرجل على علم بالمرأة المتوÙاة، ولكنّ أنّى لي أنّ أعر٠ماهيّة تلك المعرÙØ© وأنا ملتزم ÙÙŠ Øديثي معه بعدم استعمال أسلوب الاستÙهام.
  صرÙت نظري عنه، وسرØت بخيالي ÙÙŠ جوانب المقبرة: متى Ø³ÙŠØµÙ„Ø Øالها بتسويرها؟
   كأن صديقي Ø£Øسّ بشيء من الØرج لكون القبر لا يبعد كثيرًا عن الطريق المسÙلت الذي يقسّم المقبرة قسمين، نهض، نظر أمامًا ويمينًا وشمالًا وخلÙًا كأنما ÙŠØدّد ÙÙŠ ذهنه بدقّة عالية موضع القبر؛ ليعود إليه مرّة بعد أخرى.
  عدنا إلى السيارة، ووصلنا بيتي، دخلنا لتناول القهوة، وبØركته المعتادة أبعد صØÙ† الÙاكهة جانبًا وقال مقولته المتكرّرة: “لا نريد من هذا التقدوم”ØŒ أكل رطبتين من صن٠(الزَّبَد) ورطبة واØدة من صن٠(خَلاص عÙمان) وقال بدعابة نادرة: “نرضي كلّ الأطرأ، وأردÙ: ” لا أريد شرب القهوة “ØŒ Ùلم ألØÙ‘ عليه، Ùأكثر أيامه لا يشربها، ولكني دعوته إلى البقاء معنا إلى أن نصلّي صلاة الظهر ÙÙŠ المسجد جماعة، ثمّ نتناول وجبة الغداء، Ùأبى.
  سلّم عليّ، وشكرني، وركب سيارته، ومضى.
  لا أدري إن كان سيتّجه مباشرة إلى القبر، أو سيعود إلى بلاده.